د / صلاح عبد العزيز سلامة
الحمد لله رب العالمين ؛ والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين المبعوث رحمة للعالمين ؛ وبعد :
خص الله تعالى المدينة النبوية بفضل عظيم حيث جعلها ثانية الحرمين ودار هجرة نبيه صلى الله عليه وسلم وحصن نصرته ومنطلق نور الإيمان إلى مختلف نواحي الأرض ؛ وكان مسجدها ثاني المساجد التي تشد إليها الرحال ؛ فيه الروضة المطهرة التي هي من رياض الجنة .
وقد بدأ اشتغال مؤرخي المسلمين بكتابة سيرة الرسول صلوات الله عليه وسلامه، وحولها تفجرت ينابيع أفكارهم فقدمت مادة تاريخية غزيرة عن المدينة المنورة ؛ تجلت في وصف الأماكن والأحداث التي كانت لها علاقة بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في المدينة ؛ وكذلك الحال بالنسبة لكتب المغازي فقد وردت فيها أخبار عن بعض الأماكن التي مر عليها بجيش الإسلام في طريقه إلى غزواته .
وعندما ازدهرت الحركة العلمية عند المسلمين في القرن الثاني الهجري ظهر نوع جديد من الكتابة التاريخية، وهو التأريخ للمدن الإسلامية، ومكة والمدينة أقدسها ؛ فكانت عنايتهم بمكة المكرمة والمدينة المنورة فائقة ؛ وكان من أشهر من كتب عن المدينة المنورة محمد بن الحسن بن زبالة ؛ وأبو عبيدة معمر بن المثنى ؛ وعلي المدائني، والزبير بن بكار ؛ وعمر بن شبة ؛ ويحيى العلوي ؛ وغيرهم ممن تفرقت أخبارهم في المصادر .
وكان للمؤرخين المذكورين شرف السبق في تناول تاريخ طيبة في كتب مفردة لهذا الغرض مما جعل لهذه المؤلفات أهمية كبيرة لدى المؤرخين الذين جاؤوا بعدهم فكانت كتبهم تلك هي المصادر التي اعتمدوا عليها ونقلوا منها ؛ ومن المحزن أنه لم يصلنا من مخطوطاتها سوى كتاب واحد هو كتاب تاريخ المدينة لابن شبة الذي عثر الباحثون على نسخة منه وطبع محققاً ؛ أما بقية تلك الكتب المؤلفة في المرحلة الأولى فلم تعرف منها نسخ مخطوطة ؛ وإنما وصلنا نصوص منقولة منها في كتب كثيرة متفرقة .
وقبل أن نتعرف على تلك المؤلفات التي وُضعت في تاريخ المدينة إبَّان القرنين الثاني والثالث الهجريين، نلقي الضوء على بداية الكتابة التاريخية عند المسلمين ؛ ودوافع التأليف التاريخي وارتباط التاريخ بالحديث ؛ ثم كيف وصل المؤرخون لهذا النوع الجديد من الكتابة التاريخية وهو التأريخ المحلي للمدن وعلى الأخص التأليف عن تاريخ المدينة المنورة .
دوافع التأليف التأريخي عند المسلمين :
إن فطرة الناس تلح عليهم أن يتركوا وراءهم تاريخاً ؛ وإن الأحداث الضخمة التي تؤثر في حياة الشعوب والأفراد لجديرة بأن تسجل ويضمها تاريخ مدون ؛ ولكن لم يكن هذا وحده ما دفع إلى كتابة التاريخ الإسلامي ؛ وما أعان على كتابة هذا التاريخ ؛ فقد كان بجوار هذين الدافعين القويين دوافع أخرى ، فخصائص الأمة العربية في فكرها وثقافتها كانت تعين على ظهور التاريخ ؛ فهي أمة تميزت بالحفظ والرواية ؛ وبالبلاغة والشعر ؛ وبالحرص على الأنساب والفخر بها ؛ والعلوم الإسلامية كان لها أثرها في دفع المسلمين قدماً نحو كتابة التاريخ ؛ والقرآن الكريم هو المصدر الأول لدراسة علم التاريخ عند العرب ؛ ويليه الحديث والسنة ؛ وكانت بداية التأليف العلمي في التاريخ وثيقة الصلة بهذين المصدرين .
إرتباط التاريخ بالحديث والرواية الشفهية :
كان علم التاريخ العربي الإسلامي عند نشأته يقوم على دراسةسيرة النبي صلىالله عليه وسلم والاهتمام بها وأخبار الغزوات ومن أسهم فيها من الصحابة رضوان الله عليهم ؛ وكان مركز النشاط في هذه الحركة التاريخية يتمثل في مكة والمدينة ؛ وكان المؤرخون الأوائل من المسلمين يعتمدون فيه على الروايات الشفهية شأنهم في ذلك شأن رواة الحديث ؛ فكان كل جيل منهم يستمد أخباره من الجيل السابق ؛ وكان الخبر التاريخي يستمد من السماع عن الحفاظ الموثوق بهم وهو ما يعرف بالأسانيد ؛ وهي وسيلة للإجماع على صحة الخبر، وهي نفس الوسيلة التي اتبعها المحدثون في روايتهم للحديث، مما يدل على أن التاريخ العربي عند نشأته سلك نفس الطريقة التي سلكها الحديث ؛ وأقدم الكتب التاريخية التي تجمع بين الحديث والتاريخ هي كتب المغازي والسير ؛ فقد دفع اهتمام المسلمين بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ وأفعاله للاهتداء بها والاعتماد عليها في التشريع الإسلامي ؛ وفي النظم الإدارية إلى كتابة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ مغازيه ومغازي الصحابة .
ولاشك أن عمل هؤلاء الكتاب ـ المحدّثين ـ الأفاضل ؛ وما جمعوه من أحاديث متضمنة أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وجهاده ومغازيه مؤيدة بالسند كان خطوة ممهدة لمولد علم التاريخ ؛ والمحور الذي تدور حوله حركة ؛ التدوين التاريخي، بل إنها البوابة العريضة الهامة التي دخل منها المسلمون إلى دراسة التاريخ وتدوينه عموماً ؛ وكان من الطبيعي أن تتألق هذه الحركة في المدينة باعتبارها دار هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ودار السنة التي عاش فيها الصحابة وسمعوا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ورووها بدورهم إلى التابعين .
__________________
رأس العلم خشية الله .